تنفس كثيرون الصعداء يوم السبت الماضي، حين فشلت المفاوضات بين إيران والدول الكبرى للتوصّل إلى صيغة لتفاهم يحلحل الملف النووي. بدا واضحاً أنّ جميع الأطراف المتفاوضة متلهّفة للوصول إلى اتفاق مبدئي أو مؤقت تتوقف فيه إيران عن تخصيب اليورانيوم عند حدود 20%، أو تجمّد مثل هذه العمليات. ويُسمح لها بالتخصيب في حدود 3,5%، كما تتعهد كذلك طهران بأن تجمّد عمليات بناء مفاعل الماء الثقيل الذي سيُنتج البلوتونيوم في مدينة «آراك». ويظهر هذا التلهّف من جانب الدول الكبرى لمنع إيران من مواصلة تكديس اليورانيوم المُخصّب أو زيادة تخصيبه حتى 90%، وهو الدرجة التي تسمح لها بإنتاج رأس نووي. وتقول معظم المصادر إنّ مفاعل «آراك» سيصبح جاهزاً خلال سنة من الآن. من جانبها، تريد إيران بكل الطرق الممكنة الحصول على اعتراف دولي بحقها في امتلاك التقنية النووية، وحقها المزعوم في التخصيب، كما أنها في الوقت نفسه تهدد المجتمع الدولي بأنّ جميع المفاوضات ستنتهي إذا ما هي قررت أن تنتج البلوتونيوم بعد عام ونيف من الآن. غير أن إيران ترزح كذلك تحت نير المقاطعة الاقتصادية والعقوبات، وهي تدفع الكثير كي تصدِّر النفط عن طريق الموانئ العراقية، وكذلك تحاول تفادي الحظر عبر إنشاء شركات وبنوك وهمية، كي تتحايل على العقوبات المالية التي تفرضها عليها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. غير أنّ خسارة 55 مليار دولار في السنة أمرٌ يصعب قبوله في طهران، وهو ما يدفع إدارة الرئيس حسن روحاني إلى إرسال وزير خارجيته إلى جنيف للوصول إلى عقد أقل الصفقات ضرراً، وبشرط واحد، وهو رفع العقوبات، أو الجزء الأعظم منها. ويبدو أنّ الدول الغربية ليست في عجلةٍ من أمرها، فهي ليست مستعدة لرفع الحظر عن النفط الإيراني، بل يُمكن أن ترفع الحظر عن الصادرات البتروكيماوية في المرحلة الأولى، وربما تسمح لإيران باستعادة جزء من الأموال المجمّدة في البنوك الأميركية والأوروبية. ويخيل إليّ أنّ كلاً من روسيا والصين سعيدتان كذلك باستمرار نظام العقوبات والحظر، فلقد استفادت شركات كِلا البلدين من الوجود الحصري لها في الأسواق الإيرانية، دون منافسة من الشركات والسلع الغربية. كما أن بقاء نظام العقوبات والمقاطعة يدفعان بإيران لشراء مزيد من أنظمة السلاح الروسية والصينية والكورية الشمالية. وإذن، فهذان العملاقان الشرقيان يريان في العقوبات ميزة اقتصادية لشركاتهما ومنتجاتهما. ويُدرك الغرب كذلك أنّ إيران هي اليوم في أضعف أوقاتها، وأنها بحاجةٍ ماسّة إلى صفقةٍ في الحدود الدنيا، تحفظ لطهران ماء وجهها، وتعيد إليها بعض الأموال المجمّدة في البنوك الأجنبية. وسيسمح مثل هذا الاتفاق في حدوده الدنيا بقبول الدول الغربية بإيران عضواً مصغَّراً في نادي التقنية النووية الدولي. وهناك تخوّف بأنّ مثل هذه الصفقة ستكون على حساب الدول العربية الخليجية، ولكن الأمر ليس بالضرورة كذلك. فمن مصلحة دول الخليج أن يتم تجميد البرنامج النووي الإيراني، وأن يكون نظام الرصد والمتابعة، سواءً عبر وكالة الطاقة النووية الدولية، أو عبر مجلس الأمن، نظاماً صارماً لا يسمح لها بأن تستأنف الخيار العسكري النووي. ولإيران، تاريخياً، وجهان، أحدهما وجه تجاري نخبره ونعرفه في دول الخليج منذ زمنٍ طويل. وهناك الوجه العسكري التوسّعي، المتمثل في السعي الحثيث للحصول على القنبلة النووية وتقنياتها، أو في التوسّع الإقليمي، حيث أصبح العراق حديقة خلفية يلعب فيها الحرس الثوري وقادته، ويديرونه كما يشاؤون. وكذلك الحال في سوريا، حيث تصرف الحكومة الإيرانية حوالي سبعة مليارات دولار في السنة لنصرة حرب ظالمة يقودها بشار الأسد ضد شعبه. ومن مصلحتنا أن نشجّع الوجه التجاري لإيران، ونعارض السياسات التوسّعية التي أفقرت الشعب الإيراني. وإذا ما خادعت الحكومة الإيرانية بدبلوماسيتها الناعمة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وطوّرت بالفعل سلاحاً نووياً، فإنّ هناك بدائل دبلوماسية وعسكرية مُتاحة لدول الخليج العربية، ويجب أن نفكِّر مليّاً في هذه البدائل. ويمكن أن يُعمِّق القادة الإيرانيون من انتهاج سياسة الهيمنة الإقليمية إذا ما هم نجحوا في إبرام اتفاق يهدِّئ من المخاوف الغربية تجاه الملف النووي. غير أننا يجب أن نشغل أنفسنا منذ الآن في إنقاذ العراق من الهيمنة الإيرانية القائمة اليوم بالفعل. ويمكن انتهاز فرصة تضجّر فئات كثيرة من الشعب العراقي من الوضع الحالي، ومساعدته في اختيار زعمائه الوطنيين في الانتخابات المُزمع إقامتها في 30 أبريل 2014. كما أن الاختبار الحقيقي لإيران هو في وضع حدّ للحرب السورية الدامية. فسياساتها الحالية الداعمة لنظام الأسد لا تستفزّ فقط جميع الدول العربية ضد هذه السياسات، بل تعمّق أيضاً من الانشقاق في العالم الإسلامي. وإذا ما كانت القيادة الإيرانية، كما تزعم، حريصة على وحدة المسلمين، فإنها تضحِّي بكل هذه المُثل والقِيم في سبيل نصرة ظالم ضد شعبه، أو تفكيك الدول الإسلامية من الداخل على أُسس طائفية. وللأسف، فإنّ مثل هذه السياسات قد توسّعت وامتدّت إلى بلدان شرق آسيا المسلمة، وقد رفضت هذه الدول مثل هذه السياسات التي تشقّ وحدة المسلمين، وتخلق انشقاقات عميقة في مجتمعاتها. إن إيران اليوم في مفترق طرق، فإما أن تنتهج نهجاً حضارياً جديداً يحترم جيرانها ويحافظ على أمنهم واستقرارهم وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية، وإما أن تنتهج نهجاً مُهيمناً يُبعد هؤلاء الجيران عنها، ويجذب في الوقت نفسه سخط بقية دول العالم العربي والإسلامي، ضد مثل هذه السياسات.